الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **
وأما وريكة فهم مجاورون لهنتاتة وبينهم فتنة قديمة وحرب متصلة ودماء مطلولة كانت بينهم سجالا. وهلك فيها من الفريقين أمم إلى أن غلبهم هنتاتة باعتزازهم بالولاية فخضدوا منهم بنو يدر أمراء السوس الخبر عن بني يدر أمراء السوس من الموحدين بعد انقراض بني عبد المؤمن وتصاريف أحوالهم كان أبو محمد بن يونس من علية وزراء الموحدين من هنتاتة وكان المرتضى قد استوزره ثم سخطه وعزله سنة خمسين وستمائة وألزمه داره بتامصلحت وفر عنه قومه وحاشيته وقرابته. وكان من أهل قرابته علي بن يدر من بني باداس ففر إلى السوس وجاهر بالخلاف سنة إحدى وخمسين ونزل بحصن تانصاصت سفح الجبل حيث يدفع والي السوس من درن وشيده وحصنه وتغلب على حصن تيسخت من أيدي صنهاجة وشيده وأنزل فيه ابن عمه حمدين. ثم تغلب على بسيط السوس وجأجأ ببني حسان من أعراب المعقل من مواطنهم من نواحي ملوية إلى بلاد الريف فارتحلوا إليه وعاث بهم في نواحي السوس وأطاع له كثير من قبائله فاستوفى جبايتهم. وأجلب على عامل الموحدين بتارودنت وضيق عليه المسالك وتفاقم أمره. واتهم الوزير أبو محمد بن يونس بمداخلته وعثر على كتابه إلى علي بن يدر فأمر للمرتضى باعتقاله وقتله سنة اثنتين وخمسين. وأغزى أبا محمد بن أصناك إلى بلاد السوس في عسكر الموحدين والجند وعقد له عليها فنزل تارودنت وتحصن علي بن يدر بتيونيوين وزحف إليه ابن أصناك في عسكره فهزمه ابن يدر وقتل كثيراً منهم ورجع إلى مراكش مفلولا. وأقام علي بن يدر على حاله من الخلاف وأغزاه المرتضى محمد بن علي أزلماط في عسكر من الموحدين سنة ستين فهزمهم وقتل ابن زلماط فعقد المرتضى من بعده على السوس لوزيره أبي زيد بن بكيت فزحف إليه ودارت الحرب بينهما ملياً وانقلب من غير ظفر. واستفحل أمر ابن يدر ببلاد السوس واستخدم الأعراب من بني الشبانات وذوي حسان. وأطاعته القبائل من كزولة ولمطة وزكن ولخس من شعوب لمطة وصناكة. وجبى الأموال واستخدام الرجال يقال كان جنده ألف فارس وكان بينه وبين كزولة فتن وحروب يستظهر في أكثرها بذوي حسان. ولما استولى أبو دبوس على مراكش سنة خمس ومئتين وفرغ من تمهيد ملكه بها اعتزم على الحركة إلى السوس ورحل من مراكش وقدم بين يديه يحيى بن وانودين لاحتشاد القبائل ومر بالجبل ثم أسهل من تامسكروط إلى بسيط السوس ونزل على بني باداس قبيلة ابن يدر على فرسخين من تيونيوين. وقصد تيزخت ومر بتارودنت وعاين أثر الخراب الذي بها من عيث ابن يدر ولما بلغ حصن تيزخت خيم بساحته وحشر أمماً من القبائل لحصاره وكان به حمدين ابن عم علي بن يدر فحاصره أياماً. ولما اشتد عليه الحصار داخل علي بن زكداز من مشيخة بني مرين كان في جملة أبي دبوس فداخله في الطاعة وتقبل السلطان طاعته على النزول عن حصنه. ثم أعجلته الحرب واقتحم عليهم الجبل ولجوا إلى الحصن وفر حمدين إلى بيت علي بن زكداز فأمره السلطان باعتقاله. واستولى السلطان على الحصن وأنزل به بعض السادات لولايته. وارتحل أبو دبوس إلى محاصرة علي بن يدر فحاصره أياماً ونصب عليه المجانيق. ولما اشتد عليه الحصار رغب في الإقالة ومعاودة الطاعة فتقبل وأقلع السلطان عن حصاره وقفل إلى حضرته. ولما استولى بنو مرين على ماركس سنة ثمان وستين استبد علي بن يدر بملك السوس واستولى على تارودنت وإيفري وسائر أمصاره وقواعده ومعاقله وأرهف حده للأعراب. فزحفرا إليه وكانت عليه الدبرة وقتل سنة ثمان وستين وقام بأمره علي ابن أخيه عبد الرحمن بن الحسن مدة. ثم هلك وقام بأمرهم أخوه علي بن الحسن بن يدر. ولما صار أبو علي ابن السلطان أبي سعيد إلى ملك سجلماسة بصلح عقده مع أبيه كما نذكر في أخبارهم فنزلها وشيد ملكه بها واستخدم كافة عرب المعقل فرغبوه في ملك السوس وأطمعوه في أموال ابن يدر فغزاه من سجلماسة. وفر ابن يدر أمامه إلى جبال نكيسة. واستولى السلطان أبو علي على حصنه تانصاصت وصائر أمصار السوس واستصفى ذخيرته وأمواله ورجع إلى سجلماسة. ثم استولى السلطان أبو الحسن من بعد ذلك عليه وانقرض ملك بني يدر. ولحق به عبد الرحمن بن علي بن الحسن وصار في جملته. وأنزل السلطان بأرض السوس مسعود بن إبراهيم بن عيسى اليرنياني من طبقة وزرائه وعقد له على تلك العمالة إلى أن هلك. وعقد لأخيه حسون من بعده إلى أن كانت نكبة القيروان. وهلك حسون وانفض العسكر من هنالك وتغلب عليه العرب من بني حسان والشبانات ووضعوا على قبائله الأتاوات والضرائب. ولما استبد أبو عنان بملك المغرب من بعد أبيه أغزى عساكره السوس لنظر وزيره فارس بن ودرار سنة ست وخمسين فملكه واستخدم القبائل والعرب من أهله ورتب المسالح بأمصاره وقفل إلى مكان وزارته فانفضت المسالح ولحقت به. وبقي عمل السوس ضاحياً من ظل الملك لهذا العهد وهو وطن كبير في مثل عرض البلاد الجريدية وهوائها المتصلة من لدن البحر المحيط إلى نيل مصر الهابط من وراء خط الاستواء في القبلة إلى الإسكندرية. وهذا الوطن قبلة جبال درن ذو عمائر وقرى ومزارع وفدن وأمصار وجبال وحصون يخترقه وادي السوس ينصب من باطن الجبل إلى ما بين كلاوة وسكسيوة ويدفع إلى بسيطه ثم يمر مغرباً إلى أن ينصب في البحر المحيط والعمائر متصلة حفافي هذا الوادي ذات الفدن والمزارع وأهلها يتخذون فيها قصب السكر. وعند مصب هذا الوادي من الجبل في البسيط مدينة تارودنت. وبين مصب هذا الوادي في البحر ومصب وادي ماسة مرحلتان إلى ناحية الجنوب على ساحل البحر وهنالك رباط ماسة الشهير المعروف بتردد الأولياء وعبادتهم. وتزعم العامة أن خروج الفاطمي منه. ومنه أيضاً إلى زوايا أولاد بنو نعمان مرحلتان في الجنوب كذلك على ساحل البحر وبعدها على مراحل مصب الساقية الحمراء وهي منتهى مجالات المعقل في مشاتيهم. وفي رأس وادي السوس جبل زكندر قبلة جبل الكلاوي. وفي قبلة جبال درن جبال نكيسة تنتهي إلى جبال درعة ويعرف الآخر منها في الشرق بابن حميدي ويصب من جبال نكيسة وادي نول ويمر مغرباً إلى أن يصب في البحر. وعلى هذا الوادي بلد تاكاوصت محط الرقاق والبضائع بالقبلة وبها سوق في يوم واحد من السنة يقصده التجار من الآفاق وهو من الشهرة لهذا العهد بمكان. وبلد إيفري بسفح جبل نكيسة بينها وبين تاكاوصت مرحلتان وأرض السوس مجالات لكزولة ولمطة. فلمطة منهم مما يلي درن وكزولة مما يلي الرمل والقفر. ولما تغلب المعقل على بسائطه اقتسموها مواطن فكان الشبانات أقرب إلى جبال درن. وصارت قبائل لمطة من أحلافهم وصارت كزولة من أحلاف ذوي حسان. والأمر على ذلك لهذا العهد وبيد الله تصاريف الأمور.
الخبر عن دولة بني أبي حفص ملوك إفريقية من الموحدين ومبدأ أمرهم وتصاريف أحوالهم قد قدمنا أن قبائل المصامدة بجبل درن وما حوله كثير مثل: هنتاتة وتينملل وهرغة وكنفيسة وسكسيوة وكدميوة وهزرجة ووريكة وهزميرة وركراكة وحاحة وبني ماغوس وكلاوة وغيرهم ممن لا يحصى. وكان منهم قبل الإسلام وبعده رؤساء وملوك. وهنتاتة هؤلاء من أعظم قبائلهم وأكثرها جمعاً وأشدها قوة وهم السابقون للقيام بدعوة الإمام المهدي والممهدون لأمره وأمر عبد المؤمن من بعده كما ذكرناه في أخباره. واسم هنتات جدهم بلسان المصامدة بنتي وكان كبيرهم لعهد الإمام المهدي الشيخ أبو حفص عمر ونقل البيذق أن اسمه بلسانهم فاصكات. وهنتاتة لهذا العهد يقولون أنه اسم جده وكان عظيماً فيهم متبوع غير مدافع وهو أول من بايع للإمام المهدي من قومه فجاء يوسف بن وانودين وأبو يحيى بن بكيت وابن يغمور وغيرهم منهم على أثره. واختص بصحابة المهدي فانتظم في العشرة السابقين إلى دعوته. وكان تلو عبد المؤمن فيهم ولم يكن مزية عبد المؤمن عليه إلا من حيث صحابة المهدي. وأما في المصامدة فكان كبيرهم غير مدافع وكان يسمى بين الموحدين بالشيخ كما كان المهدي يسمى بالإمام وعبد المؤمن بالخليفة. سمات لهؤلاء الثلاثة من بين أهل الدعوة تدل على اشتراكهم في الجلالة. وأما نسبه فهو عمر بن يحيى بن محمد بن وانودين بن علي بن أحمد بن والال بن إدريس بن خالد بن إليسع بن إلياس بن عمر بن وافتن بن محمد بن نحية بن كعب بن محمد بن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب هكذا نسبه ابن نخيل وغيره من الموحدين. ويظهر منه أن هذا النسب القرشي وقع في المصامدة والتحم به واشتملت عليه عصبيتهم شأن الأنساب التي تقع من قوم إلى قوم وتلتحم بهم كما قلناه أول الكتاب. ولما هلك الإمام وعهد بأمره إلى عبد المؤمن وكان بعيداً عن عصبية المصامدة إلا ما كان له من أثرة المهدي واختصاصه فكتم موت المهدي وعهد عبد المؤمن ابتلاء لطاعة المصامدة. وتوقف عبد المؤمن عن ذلك ثلاث سنين ثم قال له أبو حفص نقدمك كما كان الإمام يقدمك فاعلم أن أمره منعقد. ثم أعلن بيعته وأمضى عهد الإمام بتقديم وحمل المصامدة على طاعته فلم يختلف عليه اثنان. وكان الحل والعقد في المهمات إليه سائر أيام عبد المؤمن وابنه يوسف واستكفوا به نوائب الدعوة فكفاهم مهمها. وكان عبد المؤمن يقدمه في المواقف فيجلي فيهم. وبعثه على مقدمته حين زحف إلى المغرب الأوسط قبل فتح مراكش سنة سبع وثلاثين وزناتة كلهم مجتمعون بمنداس لحرب الموحدين مثل: بني ومانوا وبني عبد الواد وبني ورسيفان وبني توجين وغيرهم فحمل زناتة على الدعوة بعد أن أثخن فيهم. ولأول دخول عبد المؤمن لمراكش خرج عليه الثائر بماسة وانصرفت إليه وجوه الغوغاء وانتشرت ضلالته في النواحي وتفاقم أمره فدفع لحربه الشيخ أبا حفص فحسم داءه ومحا أثر غوايته. ولما اعتزم عبد المؤمن على الرحلة إلى إفريقية حركته الأولى لم يقدم شيئاً على استشارة أبي حفص. ولما رجع منها وعهد إلى ابنه محمد خالفه الموحدون ونكروا ولايته ابنه فاستدعى أبا حفص من مكانه بالأندلس وحمل الموحدين على البيعة له. وأشار بقتل يصلاتي الهرغي رأس المخالفين في شأنه فقتله وتم أمر العهد لابنه محمد. ولما اعتزم عبد المؤمن على الرحلة إلى إفريقية سنة أربع وخمسين حركته الثانية لفتح المهدية استخلف الشيخ أبا حفص على المغرب وينقل من وصاة عبد المؤمن لبنيه أنه لم يبق من أصحاب الإمام إلا عمر بن يحيى ويوسف بن سليمان. فأما عمر فإنه من أوليائكم وأما يوسف فجهزه بعسكرة إلى الأندلس تستريح منه. وكذلك فافعل بكل من تكرهه من المصامدة. وأما ابن مردنيش فاتركه ما تركك وتربص به ريب المنون واخل إفريقية من العرب وأجلهم إلى بلاد المغرب وأذخرهم لحرب ابن مردنيش إن احتجت إلى ذلك. ولما ولي يوسف بن عبد المؤمن تخلف الشيخ أبو حفص عن بيعته ووجم الموحدون لتخلفه حتى استنبل غرضه في حكم أمضاه بمقعد سلطانه وأعجب بفضله فأعطاه صفقة يمينه وأعلن بالرضى بخلافته فكانت عند يوسف وقومه من أعظم البشائر وتسمى لها بأمير المؤمنين سنة ثلاث وستين. ولما ولي يوسف بن عبد المؤمن وتحركت الفتنة بجبال غمارة وصنهاجة التي تولى كبرها سبع بن منغفاد سنة اثنتين وستين عقد للشيخ أبي حفص على حربهم فجلى في ذلك. ثم خرج بنفسه فأثخن فيهم وكمل الفتح كما ذكرناه. ولما بلغه سنة أربع وستين تكالب الطاغية على الأندلس وغمره بمدينة بطليوس واعتزم على الإجازة لحمايتها قدم عساكر الموحدين إليها لنظر الشيخ أبي حفص ونزل قرطبة وأمر من كان بالأندلس من السادة أن يرجعوا إلى رأيه فاستنقذ بطليوس من هوة الحصار وكانت له في الجهاد هنالك مقامات مذكورة. ولما انصرف من قرطبة إلى الحضرة سنة إحدى وسبعين هلك عفا الله عنه في طريقه بسلا ودفن بها وكان أبناؤه من بعده يتناولون الإمارة بالأندلس والمغرب وإفريقية مع السادة من بني عبد المؤمن فولى المنصور ابنه أبا سعيد على إفريقية لأول ولايته وكان من خبرة مع عبد الكريم المنتزي بالمهدية ما ذكرناه. واستوزر أبا يحيى بن أبي محمد بن عبد الواحد وكان في مقدمته يوم الأركة سنة إحدى وتسعين فجلى عن المسلمين وكان له في ذلك الموقف من الصبر والثبات ما طار له به ذكر. واستشهد في ذلك الموقف وعرف أعقابه ببني الشهيد آخر الدهر وهم لهذا العهد بتونس. ولما نهض الناصر إلى إفريقية سنة إحدى وستمائة لما بلغه من تغلب ابن غانية على تونس فاسترجعها ثم نازل المهدية فتعاوت عليه ذئات الأغراب. وجمعهم ابن غانية ونزل قابس فسرح الناصر إليهم أبا محمد عبد الواحد ابن الشيخ أبي حفص في عسكر من الموحدين فأوقع بابن غانية بتاجرا من نواحي قابس سنة اثنتين وستمائة وقتل جبارة أخو ابن عانية وأثخن فيهم قتلا وسبياً واستنقذ منهم السيد أبا زيد بن يوسف بن عبد المؤمن الوالي كان بتونس وأسره ابن غانية ورجع إلى الناصر بمكانه من حصار المهدية فكانت سبباً في فتحها. وكان ذلك مما حمل الناصر على ولاية الشيخ أبي محمد بإفريقية حسبما نذكره إن شاء الله.
الخبر عن إمارة أبي محمد ابن الشيخ أبي حفص بإفريقية وهي أولية أمرهم بها لما تكالب ابن غانية وأتباعه على إفريقية واستولى على أمصارها وحاصر تونس وملكها وأسر السعيد أبا زيد أميرها ونهض الناصر من المغرب سنة إحدى وستمائة كما ذكرناه فاسترجعها من أيديهم وشردهم عن نواحيها. وخيم على المهدية يحاصرها وقد أنزل ابن غانية ذخيرته وولده بها وأجلب في جموعه خلال ذلك على قابس فسرح الناصر إليه الشيخ أبا محمد هذا في عساكر الموحدين. وزحف إليهم بتاجرا من جهات قابس فهزمهم واستولى على معسكرهم وما كان بأيديهم وأثخن فيهم بالقتل والسبي واستنقذ السيد أبا زيد من أسرهم ورجع إلى الناصر بعسكره من حصار المهدية ظافراً ظاهراً. وعاين أهل المهدية يوم مقدمه بالغنائم والأسرى فبهتوا وسقط في أيديهم وسألوا النزول على الأمان. وكمل فتح المهدية ورجع الناصر إلى تونس فأقام بها حولا إلى منتصف سنة ثلاث وستمائة. وسرح أثناء ذلك أخاه السيد أبا إسحاق ليتتبع المفسدين ويمحو مواقع عيثهم فدوخ ما وراء طرابلس وأثخن في بني دمر ومطماطة ونفوسة وشارف أرض سرت وبرقة وانتهى إلى سويقة ابن مذكور. وفر ابن غانية إلى صحراء برقة وانقطع خبره. وانكفأ السيد راجعاً إلى تونس. واعتزم الناصر على الرحلة إلى المغرب وقد أفاء على إفريقية ظل الأمر وضرب عليهم سرادق الحماية. وبدا له أن ابن غانية سيخالفه إليها وأن مراكش بعيد عن الصريخ وأنه لا بد من رجل يسد فيها مسد الخلافة ويقيم بها سوق الملك فوقف اختياره على أبي محمد ابن الشيخ أبي حفص ولم يكن ليبعدوه لما كان عليه هو وأبوه في دولتهم من الجلالة وأن أمر بني عبد المؤمن إنما تم بوفاق الشيخ أبي حفص ومظاهرته وأنا أباه المنصور كان قد أوصى الشيخ أبا محمد به وبأخوته. وكان يوليه صلاة الصبح إذا حضر شغل وأمثال ذلك. وسرى الخبر بذلك إلى أبي محمد فامتنع وشافهه الناصر به فاعتذر فبعث إليه ابنه يوسف فأكرم موصله. وأجاب على شريطة اللحاق بالمغرب بعد قضاء مهمات إفريقية في ثلاث سنين وأن يختار عليهم من رجالات الموحدين وأن لا يتعقب عليه في تولية ولا عزل فقبل شرطه فنودي في الناس بولايته ورفعت بين الموحدين رايته. وارتحل الناصر إلى المغرب ورجع عنه الشيخ أبو محمد من باجة فقعد مقعد الإمارة بقصبة تونس في السبت العاشر من شوال سنة ثلاث وستمائة وأنفذ أوامره واستكتب أبا عبد الله محمد بن أحمد بن نخيل ورجع ابن غانية إلى نواحي طرابلس فجمع أحزابه وأتباعه من العرب من سليم وهلال. وكان فيهم محمد بن مسعود البلط في قومه من الدواودة وعاودوا عيثهم وخرج إليهم أبو محمد سنة أربع وستمائة في عساكر الموحدين. وتحيز إليه بنو عوف من سليم وهم: مرادس وعلاق فلقيهم بشبرو وتواقعوا واحتربوا عامة يومهم ونزل الصبر. ثم انفض عسكر ابن غانية آخر النهار واتبعهم الموحدون والعرب واكتسحوا أموالهم وأفلت ابن غانية جريحاً إلى أقصى مفره. ورجع أبو محمد إلى تونس بالظفر والغنيمة. وخاطب الناصر بالفتح واستنجاز وعده في التحول عن الولاية فحاطته بالشكر والعذر بمهمات المغرب عن إدالته وأنه يستأنف النظر في ذلك. وبعث إليه بالمال والخيل والكساء للإنفاق والعطاء. كان مبلغها مائتا ألف دينار اثنتان وألف وثمان مائة كسوة وثلاثمائة سيف ومائة فرس غير ما كان أنفذ إليه من سبتة وبجاية ووعده بالزيادة. وكان تاريخ الكتب سنة خمس فاستمر أبو محمد على شأنه وترادفت الوقائع بينه وبين يحيى الميورقي كما نذكره.
كان يحيى بن غانية لما أفلت من وقيعة شبرو بدا له ليقصدن بلاد زناتة بنواحي تلمسان وقارن ذلك وصول السيد أبي عمران بن موسى بن يوسف بن عبد المؤمن والياً عليها من مراكش وخروجه إلى بلاد زناتة لتمهيد أنحائهم وجباية مغارمهم. وكتب إليه الشيخ أبو محمد نذيراً بشأنه وأن لا يتعرض له وأنه في أتباعه فأبى من ذلك وارتحل إلى تاهرت وصحبه بها ابن غانية فانفض معسكره. وفرت زناتة في حصونها وقتل السيد أبو عمران. واستبيحت تاهرت فكان آخر العهد بعمرانها وامتلأت أيديهم من الغنائم والسبي وانقلبوا إلى إفريقية فاعترضهم الشيخ أبو محمد بموضع فأوقع بهم واستنقذ الأسرى من أيديهم واكتسح سائر مغانمهم وقتل فيها كثير من الملثمين. ولحق فلهم بناحية طرابلس إلى أن كان من أمرهم ما نذكره.
ومهلك العرب والملثمين بها كان ابن غانية بعد واقعة شبرو واستفتاح أبي محمد تاهرت من يده خلص إلى جهات طرابلس وتلاحق به فل الملثمين وأوليائه من العرب. وكان المجلي معه في مواقفة الدواودة من رياح وكبيرهم محمد بن مسعود فتدامروا واعتزموا على معاودة الحرب وتعاقدوا الثبات والصبر وانطلقوا يستألفون الأعراب من كل ناحية حتى اجتمع إليهم من ذلك أمم كان فيهم من رياح وزغب والشريد وعوف ودباب ونفاث. واختلفوا في الاحتشاد وأجمعوا دخول إفريقية فبادرهم أبو محمد قبل وصولهم إليها. وخرج من تونس سنة ست وأغذ السير إليهم وتزاحفوا عند جبل نفوسة واشتدت الحرب. ولما حمي الوطيس ضرب أبو محمد بنتيه وفساطيطه. وتحيز إليه بعض الفرق من بني عوف بن سليم واحتل مصاف ابن غانية. واتبعه الموحدون إلى أن دخل في غيابات الليل وامتلأت أيديهم بالأسرى والغنائم وسيقت ظعائن العرب. وقد كانوا قدموها بين يديهم للحفيظة واللياذ في الكر والفر فأصبحت مغنماً للموحدين وربات خدورهم سبياً. وهلك في المعركة خلق من الملثمين وزناتة والعرب كان فيهم عبد الله بن محمد بن مسعود البليط بن سلطان وشيخ الدواودة وابن عمه حركات بن أبي شيخ بن عساكر بن سلطان وشيخ بني قرة وجرار بن ويغزن كبير مغراوة ومحمد بن الغازي بن غانية في آخرين من أمثالهم. وانصرف ابن غانية مهيض الجناح مفلول الحد محفوفاً بالبأس من جميع جهاته وانقلب أبو محمد والموحدين أعزة ظاهرين واستفحل أمر أبي محمد بإفريقية وحسم علل الفساد منها واستوفى جبايتها. وطالت مواقف حروبه ولم تهزم له فيها راية. وهلك الناصر وولي ابنه يوسف المستنصر واستبد عليه المشيخة لمكان صغره وشغلوا بفتنة بني مرين وظهورهم بالمغرب فاستكفى بالشيخ أبي محمد في إفريقية وعول على غنائه فيها وضبطه لأحوالها وقيامه بملكها فأبقاه على عملها وسرب إليه الأموال لنفقاتها وأعطياتها ولم يزل بها إلى أن هلك سنة ثمان عشرة.
وولاية ابنه عبد الرحمن كانت وفاة الشيخ أبي محمد فاتح سنة ثمان عشرة. ولما هلك ارتاع الناس لمهلكه وافترق الموحدون في الشورى فريقين بين عبد الرحمن ابن الشيخ أبي محمد وإبراهيم ابن عمه إسماعيل ابن الشيخ أبي حفص فترددوا ملياً ثم اتفقوا على الأمير أبي زيد عبد الرحمن ابنه وأعطوه صفقة أيمانهم وأقعدوه بمجلس أبيه في الإمارة فسكن الثائر وشمر للقيام بالأمر عزائمه. وأفاض العطاء وأجاز الشعراء. واستكتب أبا عبد الله بن أبي الحسين وخاطب المستنصر بالشأن. وخرج في عساكره لتمهيد النواحي وحماية الجوانب إلى أن وصل كتاب المستنصر بعزل لثلاثة أشهر من ولايته حسبما نذكره فارتحل إلى المغرب ومعه أخوانه. وكاتبه ابن أبي الحسين ولحق بالحضرة.
الخبر عن ولاية السيد أبي العلا على إفريقية وابنه أبا زيد من بعده وأخبارهم فيها واعتراضاتهم في الدولة الحفصية لما بلغ الخبر إلى مراكش بمهلك أبي محمد بن أبي حفص وقارن ذلك عزلة السيد أبي العلا من إشبيلية ووصوله إلى الحضرة مسخوطاً: وهو أبو العلا إدريس بن يوسف عبد المؤمن أخو يعقوب المنصور وعبد الواحد المخلوع المبايع له بعد ذلك. وعول على الوزير ابن المثنى في جبر حاله فسعى له عند الخليفة وعقد له على إفريقية ووصل الخطاب بولايته ونيابة إبراهيم بن إسماعيل ابن الشيخ أبي حفص عنه خلال ما يصل واستقدم أبناء الشيخ أبي محمد إلى الحضرة. وقرئ الكتاب شهر ربيع الأول من سنة ثماني عشرة فقام الشيخ بالنيابة في أمره واستعمل أحمد المشطب في وزارته وغلب عليه بطانته وأساء في الموالاة لقرابته. واختص أبناء الشيخ أبا محمد بقبيحة وظن امتداد الدولة له. ووصل السيل أبو العلا شهر ذي القعدة من السنة فنزل بالقصبة ونزل ابنه السيد أبا زيد بقصر ابن فاخر من البلد ورتب الأمور ونهج السنن. ولشهر من وصوله تقبض على محمد بن نخيل كاتب الشيخ أبي محمد وعلى أخويه أبي بكر ويحيى واستصفى أموالهم واحتاز عقارهم وضياعهم. وكان المستنصر عهد إليه بذلك لما كان أسفه بفلتات من القول والكتاب تنمى إليه أيام رياسته في خدمة أبي محمد فاعتقلهم السيد أبو العلا ثم قتله وأخاه يحيى لشهر من اعتقالهما بعد أن فر من سجنه وتقبض فقتل. ونقل أبو بكر إلى مطبق المهدية فأردع به. وخرج السيد أبو العلا من تونس سنة تسع عشرة في عساكر الموحدين إلى نواحي قابس لقطع أسباب ابن غانية منها فنزل قصر العروسيين وسرح ولده السيد أبا زيد في عسكر من الموحدين إلى درج وغدامس من بلاد الصحراء لتمهيدها وجبايتها. وقدم بين يده عسكراً. آخراً لمنازلة ابن غانية بودان وواعدهم هناك منصرفه من غدامس فأرجف بهم العرب في طريقهم بمداخلة ابن غانية. ومال بذله في ذلك فانفض العسكر وزحفوا إلى قابس. وأهمل السيد أبو زيد في غدامس إليهم فلقيه خبر مفرهم. فلحق بأبيه وأخبره بالجلى في أمرهم فسخط قائد العسكر وهم بقتله. وطرق السيد أبا العلا المرض فرجع إلى تونس. وبلغه أن ابن غانية نهض من ودان إلى الزاب وأن أهل بسكرة أطاعوه فسرح السيد أبا زيد في عساكر الموحدين إليه ودخل ابن غانية الرمل فأعجزهم. ورجع السيد أبو زيد إلى بسكرة فأنزل بهم عقابه من النهب والتخريب ورجع إلى تونس. ثم بلغه أن ابن غانية قد رجع إلى جوانب إفريقية واجتمع إليه أخلاط من العرب والبربر فسرح السيد أبا زيد إليه في العساكر ونزل بالقيروان وخالفه ابن غانية إلى تونس فقصده السيد أبو زيد ومعه العرب وهوارة بظعائنهم ومواشيهم. وتزاحفوا بمجدول فاتح إحدى وعشرين واشتد القتال وعضت الموحدون الحرب وأبلى هوارة وشيخهم بعرة ابن حناش بلاء جميلا. وضرب بنتيه وتناغوا في الثبات والصبر فانهزم الملثمون وانجلت المعركة عن حصيد من القتلى من أصحاب ابن غانية واستولى الموحدون على معسكرهم. وكان بلغ السيد أبا زيد خبر مهلك أبيه السيد أبي العلا بتونس في شعبان سنة عشرين. فلما فرغ من مواقعة ابن غانية رجع إلى تونس وأقصر عن متابعته. وخاطب المستنصر بمهلك أبيه وواقعه الملثمين وكان المستنصر قد عزله واستبدل منة بأبي يحيى بن أبي عمران التينمللي صاحب ميورقة ولم يصل إليه الخبر بعزله بعد. وهلك الملك المستنصر إثر ذلك سنة عشرين وولي عبد الواحد المخلوع ابن يوسف بن عبد المؤمن فنقض تلك العقدة وكتب إلى السيد أبي زيد بالإبقاء على عمله ونقض ما أصدر المستنصر من عزله فأرسل عنانه في الولاية وبسط يده في الناس بمكروهه وتنكرت له الوجوه وانحرف عنه الناس بما كانوا عليه من الصاغية لأبي محمد بن أبي حفص وولده إلى أن عزل واستبدل بهم كما نذكره وركب البحر بذخائره وأهله فلحق بالحضرة. الخبر عن ولاية أبي محمد عبد الله بن أبي محمد ابن الشيخ أبي حفص وما كان فيها من الأحداث لما هلك المخلوع وولي العادل ولى على إفريقية أبا محمد عبد الله بن أبي محمد عبد الواحد. وولى على بجاية يحيى بن الأطاس التينمللي وعزل عنها ابن يغمور. وكتب إلى السيد أبي زيد بالقدوم. وكتب أبو محمد عبد الله إلى ابن عمه موسى بن إبراهيم ابن الشيخ أبي حفص بالنيابة عنه خلال ما يصل فخرج السيد أبو زيد في ربيع الآخر سنة ثلاث وعشرين واستقل أبو عمران موسى بأمر إفريقية واستمرت نيابته عليها زهاء ثمانية أشهر. وخرج أبو محمد عبد الله من مراكش إلى إفريقية. ولما انتهى إلى بجاية قدم بين يديه أخاه الأمير أبا زكريا ليعترضه طبقات الناس للقائه فوصل إلى تونس في شعبان من هذه السنة بعد أن أوقع في طريقه بولهاصة. وكان أولاد شداد رؤساؤهم قد جمعوا لاعتراضه بناحية بونة فسرح أخاه الأمير أبا زكريا لحسم دائهم ولخروج الطبقات من أهل الحضرة للقائه فكان كذلك. وخرج في رمضان من سنته وخرج معه الناس على طبقاتهم فلقوه بسطيف ووصل إلى الحضرة في ذي القعدة من آخر السنة وتزحزح أبو عمران عن النيابة. ثم لحقه من المغرب أخوه أبو إبراهيم في صفر سنة أربع وعشرين فعقد له على بلاد قسطيلية وعقد لأخيه الأمير أبي زكريا على قابس وما إليها وذلك في جمادى من هذه السنة. وبعد استقراره بتونس بلغه أن ابن غانية دخل بجاية عنوة ثم تخطى كذلك إلى تدلس وأنه عاث في تلك الجهات فرحل من تونس وعقد لأخويه كما ذكرناه. وأغذ السير إلى فحص أبة فصبح به هوارة وقد كان بلغه عنهم السعي في الفساد فأطلق فيهم أيدي عسكره واعتقل مشايخهم وأنفذهم إلى المهدية. ثم مر في أتباع ابن غانية فانتهى إلى بجاية وسكن أحوالها ثم إلى متيحة ومليانة فأدركه الخبر أن ابن غانية قصد سجلماسة فانكفأ راجعاً إلى تونس ودخلها في رمضان سنة أربع وعشرين ولم يزل مستبداً بإمارته إلى أن ثار عليه الأمير أبو زكريا وغلبه على الأمر كما نذكر.
|